برايَن ترنر
هُنـا، أَيَّـتُها الرَّصَاصَــة
ترجمة حيدر الكعبي
عربيَّـة الجنـود
"إنها لحرب غريبة وجديدة هذه الحرب، حرب لا يعلم المرء عنها
إلا قدرَ ما يمكنه أن يصدِّق."
(إرنست هيمنغواي)
كلمة "حب" يكتبونها من اليمين الى اليسار،
مبتدئين حيث ننتهي
ومنتهين حيث نبدأ.
من حيث ننهي حرباً
قد يبدؤون حرباً أخرى،
أو يسـتعيدون تلاوتها، كأحد أصداء التاريخ.
ما إن تنطقْ كلمة "موت،"
حتى تسمعَ سلاسلَ الرياح
تندفعُ صوب حُجُبِ المجهول.
هذه لغة صُنعتْ من الدم،
صُنعتْ من الرمل والزمن.
لكي تتحدثها، عليك أن تمتلكها.
"هو الذي يخرج الحي من الميت، والميت من الحي"
(القرآن 10:30)
حديقة حيوانات بغداد
"هل العالم أكثر أمناً؟ كلا، إنه ليس أكثر أمناً في العراق."
هانز بلِكس
دبٌّ من شَمال العراق، بنيُّ اللون، يمزّق رجلاً
في زاوية شارع، ويسحله الى أحد الأزقة
والمتفرجون المصعوقون يتصايحون ويرمون الحجارة.
الدبابات تدير سرفاتها الثقيلة
مجتازة المتحف باتجاه وزارة النفط.
جنديٌّ يمسك بندقية ويَرْقَـبُ أسداً يطارد حصاناً.
الزرافات، المأكولة حتى هياكِلها العظمية،
تشبه مخلوقات خيالية مما قبل التاريخ،
أعناقها أرشقُ وأرقُّ من أن تناسب القرن الواحد والعشرين.
طيور البَجَع والحَذَف تفر مذعورة
من عَصْف مراوح طائرة الـ (بلاك هوك)
وهي تحاذي سطح الأرض
سِعدانٌ كبير يفلت خارج حدود المدينة
ثم يُعثر عليه هائماً في الصحراء،
وقد أربكته الرياح
والرمل المتطاير من الكثبان.
الخَطُّ السَّريع رقم 1
"أرى أفقاً بنجيـع الدماءِ تنوَّرَ واختفتِ الأنجمُ
وجيلاً يروحُ وجيلاً يجيءُ وناراً إزاءَهما تُضْرمُ"
الجواهري
تبدأ الحكاية بخطّ الموتِ السريع،
بعددٍ لا يُحصى من الأشباح
تجوب الدروب ليلاً، بحثاً عن الطريق الى البيت،
في النجف، وكركوك، والموصل، وخان سعد.
إنها تبدأ هنا
بجرجرةِ أقدامٍ طَوالَ الطريق شَمالاً
هذا هو طريق تجارة العطور القديم ذاتُه،
طريق قوافل الجِمال والغبار والهجير
حيث يترجرج (النُّومي) المصريّ والليمونُ السلطانيّ
في صناديقَ محزَّمةٍ بسيور الجِلْد
وحيث يأتي التجار بالياسمين والمِسْـكِ والأَلْوة
وشمع العسل والحرير من الشرق
اللقالق تعشش فوق خطوط الكهرباء
في أعشاش هائلة مثل طاسات كبيرة من العيدان والغصون.
أحد العرفاء، على الخط السريع، يطلق النار فيصيب واحداً،
يَذْهَلُ الطير، لحظةً، كأنه يَعْجَبُ أن يأتيَهُ الموت هنا،
في الساعة السابعة من هذا الصباح الجميل،
قبل أن يميلَ الى الجانب، ويتهاوى ببطء
منْحلاً الى أجنحةٍ وريش.
خِزانـةُ الوَجَـع
لم يبقَ هنا سوى الوجع،
وسوى الرصاصِ والألم،
وسوى النزفِ حتى الموت،
وسوى لعنات الجرحى
وشتائمِهم وتجديفاتهم
لم يبق هنا سوى الوجع.
صدّقْ ما تراه عيناك.
حين ترى صبيّاً في الثانيةَ عَشَـرة
يدحرج رمانةً في غرفتك،
أو حين يفتح قناصٌ ثقباً في جمجمتك،
أو حين يترجل أربعة رجال من سيارة أجرة
في الموصل، ويمطرون الشارع بالرصاص،
صدّقْ ذلك.
إفتحْ خزانة الوجع،
وأنظر ما فيها من سكاكينَ وأنياب.
إفتحْ خزانة الوجع،
وتعلّـمْ كيف يأتي الرجال الأشدّاء
ليصطادوا الأرواح.
أكياسُ الجُـثَـث
الغربانُ المجرمة تواصل التحديق بصمت،
من أعالي أشجار اليوكالبتوس،
ونحن نقف قرب جثث الجنود،
وقد بدوا كأنهم سينقلبون،
ويستيقظون من حلمٍ ما
ليستجوبونا عن الدم المتيبّس على جِلْد رؤوسهم،
وعن الرصاص الدفين في أقفية جماجمهم،
وعن زوجاتهم وأولادهم، وأين هم الآن، في هذا الصباح،
ولمَ كلُّ هذا الذباب المحوّم،
وعن طعم الخبز الماصخ والچاي
الذي زال من أفواههم،
ثم يتمطَّوْن وينهضون،
وهم يعجبون لهؤلاء الغرباء
الذين راحوا يركلون أقدامهم المتصلِّـبة، ويصرخون:
"آخر نداء، يا ابن القحبة، آخر نداء."
يوم العودة الى الوطن
الشلامچة، على الحدود العراقية-الإيرانية
إلى خضر
الهياكل العظمية تستريح في صناديقها
ومازالت، بعد عشرين عاماً، مَرْخِيَّـةَ الفكين،
كأنها مندهشة لموتها.
أودُّ لو أستلقي بينها،
لو أُلَـفْـلَفُ بأعلام الأمم كلها،
ولو أُرْبَطُ بالضوء والظل.
أودُّ لو تنحني موظفة الصليب الأحمر عليّ،
لكي يمكنني أن أرى النظرة التعبى في عينيها
وهي تدوِّن اسمي.
حقول نفط كركوك، 1927
يقول أحمد: "إننـا نعيش فوق سقف الجحيم."
وهو يؤمن بهذا، فلقد شـهِدَ الغاز الملتهب يشهق متدفقاً من ثقوب في الأرض.
شـهِدَ النهر الأسود يكتسـح القرية بفيضان النفط،
فكأنَّ الحفارات قد ضربتْ وريداً في جمجمة الله.
إنَّ أحمد العجوز يقول: "يا ولدي، عليكَ أنْ تتعلمَ كيف تعيش هنا—"
حيث يُدفن الناس، رجالاً ونساءً، في أعماق عقل الله،
هِبـةً للأرض،
في هيئة دمٍ أسود،
أو في هيئة اللهب.
ما على كلِّ جنديٍّ أن يَعْلَمَه
"الرضوخ للقوة ليس فعلاً إرادياً، بل أمرٌ تفرضه الضرورة. إنه، في أفضل الأحوال، أمر تقتضيه الحكمة"
جان جاك روسو
إذا سمعتَ الرصاصَ يُطلَقُ عصْرَ الخميس،
فقد يكون ذلك عرساً، وقد يكون الرصاص لك.
"أوگفْ تره أرميكْ" نادراً ماتنفع.
إنها تعني Stop! Or I’ll shoot
"صباح الخير" تنفع.
إنها تعني Good Morning
"إنْ شاءَ الله" تعني Allah be willing
أصغِ جيّداً إذا سـمعتَها.
سوف تَسمع قذائفَ الـ RPG حين تأتي إليك،
أما قنابل الطريق فلن تَسـمعَها.
ثمة قنابل تحت الجسور،
وفي أكوام الزبالة، وفي الطابوق، وفي السيارات.
ثمة عرباتُ تَبَـضُّـعٍ تحوي ثياباً
منقوعةً بالنابالم الجلاتينيّ اللزج المصنّع محليّاً.
شعارٌ مكتوبٌ رشّـاً على الجسر:
I will kell you, American.
[سأقتلك أيها الأمريكي]
رجالٌ يرتدون صدريّاتٍ محشوةً بالمتفجرات،
يتقدمون، ويرفعون أذرعهم، ويقولون "إن شاءَ الله."
ثمة رجال يتقاضون ثمانين دولاراً
لقاءَ مهاجمتك، وخمسةَ آلافٍ لقتلك.
أطفال يلعبون معك،
شيوخ يتحدثون معك،
نساء يقدمنَ لك الچاي
وأيٌّ منهم
قد يرقص غداً على جثتك.
عن: Turner, Brian. Here, Bullet. Farmington: Alice James Books, 2005.
برايَن ترنر شاعر أمريكي، ولد في كاليفورنيا عام 1967. أمضى عاماً من خدمته في الجيش الأمريكي (ابتداء من تشرين الثاني 2003) يقود حضيرة مشاة في العراق. حظيت مجموعته الشعرية الأولى (هنا، أيتها الرصاصة)، الصادرة عام 2005، والتي نترجم منها هذه المختارات، باهتمام الأوساط الأدبية ومنح بسببها جوائز وزمالات عديدة. مجموعته الثانية صدرت هذا العام (2010) وهي تحمل عنوان (ضجيج الفانتوم).
حيدر الكعبي
شاعر عراقي مقيم في الولايات المتحدة
kabial@memphis.edu
برايَن ترنر هُنـا، أَيَّـتُها الرَّصَاصَــة
Mohamed Sadek
مشرف
المزيد
برايَن ترنر
انسخ كود الشكل الذى تريده وضعه فى تعليق
اذا كنت لا تملك حساب على بلوجر قم بإختيار التعليق باسم " مجهول "
تعليقات بلوجر
تعليقات الفيس بوك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق